الطريق الى الحركة العربية الواحدة

الثورة العربية وأداتها الواحدة

التراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدو لة من القراءة العلمانية الى القراءة الإسلامية المستنيرة

التراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدو لة من القراءة العلمانية الى القراءة الإسلامية المستنيرة
د.صبرى محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الإسلامية فى جامعة الخرطوم
Sabri.m.khalil@gmail.com
تعريف بالتراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله : يتضمن التراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله ” رحمه الله تعالى” ثلاثه مستويات هى:
اولا المستوى الفلسفى : ويتضمن جانب نفى يتضمن نقده للفلسفات الغربيه الاساسيه ” كالماركسيه والليبراليه والوجوديه…” ، كما يتضمن جانب اثبات يتضمن ما اسماه ” الفلسفه الانسانيه”.
ثانيا المستوى المنهجى: ويتضمن جانب نفى يتضمن نقده لمناهج المعرفه الغربيه الاساسيه (كالمنهج الجدلى بشكله المثالى كما عند هيجل ، وشكله المادى كما عند ماركس، والمنهج الليبرالى…)،وجانب اثبات يتضمن ما اسماه ” منهج جدل الانسان”.
ثالثا المستوى المذهبى: ويتضمن جانب نفى ويتضمن نقد للمذاهب السياسيه الغربيه الاساسيه(كالمذاهب السياسيه الليبراليه والماركسيه…)، وجانب اثبات يتضمن ما اسماه ” نظريه الثوره العربيه” باركانها الثلاثه “المنطلق والغايات والوسيله.”
تعدد القراءات واسبابه : وهناك تعدد فى قراءات التراث الفكرى عند الدكتور عصمت سيف الدوله، ويرجع هذا التعدد فى القراءات العديد من الاسياب ومنها:
اولا: ان اى تراث فكرى بما هو اجتهاد انسانى لابد ان يكون نسبى فى الزمان والمكان محدود بهما، والتالى فهو خاضع للتغير فى المكان والتطور خلال الزمان.
ثانيا: ان اى اجتهاد انسانى يقع فى اطار الظنى الدلاله ” ما يحتمل التاويل بلغه عبم اصول الفقه ” ، لذا يمكن ان تتعدد تاْويلاته ” قراءاته ” .
ثالثا: ان تفسير ذات الفكره يمكن ان يختلف باختلاف الجهه المنظور منها اليها.
رابعا: ان هناك ثلاثه مواقف يمكن اتخاذها اتجاه اى فكره ” هى الرفض المطلق و القبول المطلق والموقف النقدى” .
قراءتان اساسيتان: غير انه يمكن تقرير ان هناك قراءتان اساسيتان لهذا التراث الفكرى وهما:
القراءه الاولى” القراءه العلمانيه”: وهى قراءه تنظر الى التراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله باعتباره كل قائم بذاته ومستقل عن من سواه ، وهى قراءه علمانيه اذا كان المقصود بهذا السوى – الذى يستقل عنه هذا التراث الفكرى- الدين الاسلامى، بمعنى انها قراءه تفصل بين هذا التراث الفكرى” باعتباره مذهب سياسى” والاسلام ” كدين” ، استنادا الى ان العلمانيه نزعه تعمل على الفصل بين ماهو دينى وماهو سياسى”.
نقد القراءه الاولى (تناقضات القراءه العلمانيه):
اولا:رفض الدكتور عصمت سيف الدوله للعلمانيه: هذه القراءه تتناقض مع موقف الدكتور عصمت سيف الدوله الرافض للعلمانيه ، سواء ضمنا كما فى مؤلفاته السابقه على كتابه (عن العروبه والاسلام: مركز دراسات الوحده العربيه، بيروت ، 1986) ، او صراحه كما فى هذا الكتاب . حيث يقرر فيه ان العلمانيه ( اخطر اشكال مناهضه الاسلام بالعروبه نفاقا واكثرها اتقانا)( عن العروبه والاسلام ، ص186) ، وان (للعلمانيه نظاما وللاسلام نظاما وهما لا يلتقيان فى اكثر من وجه) (عن العروبه والاسلام، ص240) ، وان ( جوهر الدعوه العلمانيه فى مجتمع من المسلمين هو ان تستبدل بالشرائع والقواعد والاداب التى جاء بها الاسلام شرائع وقواعد واداب وضعيه) (عن العروبه والاسلام،ص423) .
ثانيا: رفض الدكتور عصمت سيف الدوله لليبراليه :لا يمكن الحديث عن قراءه ليبراليه للتراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله – والعلمانيه عنده احد اركانها كنظام شامل متكامل للحياه – لانه كان قاطعا فى رفضه لليبراليه ، وهوما يتضح من خلال نقده لليبراليه ” كفلسفه ومنهج ومذهب “فى اغلب كتبه .
ثالثا: رفض الدكتور عصمت سيف الدوله للماركسيه: كما لا يمكن الحديث عن قراءه ماركسيه لهذا التراث الفكرى- والتى تتبنى ايضا الحل العلمانى لمشكله العلاقه بين الدين والدوله – لان الدكتور عصمت سيف الدوله كان قاطعا فى رفض الماركسيه منذ مؤلفاته الاولى ، لاسباب عديده منها موقفها السلبى من الدين ، حيث يقول – على سبيل المثال لا الحصر – فى كتاب “اسس الاشتراكيه العربيه” (فالدين مثلا جزء من تكوين الامه العربيه بحكم انها تكونت امه فى ظل الحضاره الاسلاميه… ولما كانت الماركسيه ملحده فقد كان الدين حصانه للجماهير ضد مغرياتها) (د.عصمت سيف الدوله، اسس الاشتراكيه العربيه، 1965، ص7) . ومن المعلوم انه خصص هذا الكتاب اساسا لنقد الماركسيه نقدا علميا .
رابعا: التناقض بين المحدوديه ومحاوله الاطلاق: كما ان هذه القراءه تنطوى على تناقض بين كون هذا التراث الفكرى- بما هو اجتهاد انسانى- محدود زمانا مكانا، وبين محاولتها تحويلها له الى مطلق ، اى كل قائم بذاته.
خامسا: التناقض بين القبول المطلق والموقف النقدى: كما ان هذه القراءه قائمه على موقف القبول المطلق للتراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله ، والذى يتناقض مع الموقف الحقيقى للدكتور عصمت سيف الدوله من القضايا الفكريه – الاجتهاديه – التى تتجاوز موقفى القبول او الرفض المطلقين الى الموقف النقدى، الذى يميز بين الايجابيات والسلبيات ، فيقبل الاولى ويرفض الثانيه.
القراءه الثانيه “القراءه الاسلاميه المستنيره”:
التحديد التكليفى: تنظرهذه القراءه الى التراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله كاجتهاد انسانى محدود –تكليفيا – بالاصول التى مصدرها النصوص اليقينيه الورود القطعيه الدلاله ، فهذه الاصول تحده فتكمله وتغنيه ولكن لا تلغيه .
تجاوز موقفى القبول والرفض المطلقين الى الموقف النقدى: كما انها تتجاوز كل من موقفى الرفض والقبول المطلقين، الى موقف نقدى قائم على – مستوى الاصول- على قبول ما يتفق مع هذه الاصول، ورفض ما يختلف معها، كما انه قائم على مستوى الفروع على قبول ما كان صوابا فى هذا التراث الفكرى ، ورفض ماكان خطاْ فيه ، يقول د.عصمت سيف الدوله (..اى ان تكون الممارسه النضاليه وسيله لاغناء وتصحيح ثم تدعيم الفكر الطليعى وطريقا لنشره والتدليل على صحته)( الطريق ،دار الوحده، بيروت ،ج2، ص270)
مذهب اسلامى مستنير: وهذه القراءه تنظر الى هذا التراث الفكرى باعتباره مذهب اسلامى مستنير. لانه يهدف- على المستوى الذاتي- إلى تحرير عقل الإنسان المسلم من القيود التي تعوق فعاليته كوسيلة للمعرفة ” كأنماط التفكير الخرافي والاسطورى والبدعى” ، باعتبار أن ذلك هو شرط ذاتي لنقل المجتمعات المسلمة من تخلف النمو الحضاري إلي التقدم الحضاري ، كما يهدف – على المستوى الموضوعي – إلى حل للمشاكل التي يطرحها واقع المجتمعات المسلمة المعين زمانا ومكانا. وهنا نستاْنس بعدم رفض د.عصمت سيف الدولة لمصطلح “مذهب اسلامى مستنير” ، رغم رفضه مصطلح ” اسلام مستنير” ، لان الاخير- وخلافا للاول- يوحى بان ثمه اسلامان احدهما مستنير والاخر غير مستنير ( … ولو أنصفوا أنفسهم لتحدثوا عن الاستنارة والإظلام في المذاهب والآراء واجتنبوا الإسناد إلى الإسلام. وأن يكونوا مسلمين على مذهب يرونه مستنيراً فعليهم أن يقدموه مذهبا على مسؤوليتهم في الصواب والخطأ ، ولا يقدموه على أنه الإسلام المستنير بما يترك مجالا للظن بأن ثمة إسلاما غير مستنير )(عن العروبة والإسلام، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986( .
مرحلتا التطور الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله: وهنا نشير الى ان هناك مرحلتين من مراحل التطورالفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله:
المرحله الاسلاميه الكامنه: المرحله الاولى هى المرحله الاسلاميه الكامنه(وليست المرحله العلمانيه كما يرى البعض)،وتمثلها مؤلفاته قبل عن العروبه والاسلام(الاسس ، النظريه، الطريق…)، حيث يقول فى الاسس (الجواب الثانى كان متاحا بالاسلام كعقيده وشريعه… الاسلام كعقيده وشريعه غير محدود بالزمان والمكان وغير مقصور على مجتمع دون اخر وهو بهذا دين وليس مذهبا.. لهذا كان التماس الجواب فى الاسلام يقتضى جهدا بالغا ليستخلص من محتواه الانسانى الشامل كعقيده وشريعه منهجا تصاغ على هديه الحياه فى الوطن العربى فى القرن العشرين)(د.عصمت سيف الدوله،الاسس، ص6-7).
المرحله الاسلاميه الظاهره: المرحله الثانيه هى المرحله الاسلاميه الظاهره ، ويمثلها بصوره اساسيه مؤلفه عن العروبه الاسلام. مع وجوب تقرير تداخل المرحلتين فى كثير من الاحيان. وقد ساهم فى عدم اكتشاف الطابع الاسلامى الكامن فى المرحله الاولى استخدام الدكتور عصمت لمصطلحات ماركسيه وليبراليه – وان كان بدلالات مفارقه – تحت تاثير الصراع الفكرى مع هذه التيارات التى كان لها سطوه على النخبه المثقفه حينها. بل ان هذه القراءه ترى ان الدكتور عصمت سيف الدوله كان يرى وجوب اتخاذ اجتهادات اهل السنه نقطه بدايه للاجتهاد الفكرى حيث يقول فى رساله عن المذاهب فى الاسلام (فالامه العربيه مثلا وهى امه كامله التكوين التاريخى والاجتماعى تغلب عليها اراء اهل السنه فى مساله الخلافه او الامامه او الحكم ) (الجريده الناصريه، فيلسوف القوميه الدكتور عصمت سيف الدوله).
عرض للقراءتان على المستويات المختلفه للتراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله:
اولا: على المستوى الفلسفى:
القراءه الاولى”العلمانيه”: تنظر الى الفلسفه الانسانيه باعتبارها كل قائم بذاته ومستقل عن كل ما سواه ، وهو ما يتجسد فى النظر الى الفلسفه الانسانيه باعتبارها قائمه على فصل الميتافيزيقا بكل دلالاتها عن الفلسفه، وتستند هذه القراءه الى تفسير معين لبعض الفقرات الوارده فى بعض كتب الدكتور عصمت سيف الدوله اهمها قوله فى النظريه(ننبه هنا الى اننا لانستعمل كلمه ميتافيزيقا باى مفهوم ميتافيزيقى او مثالى او اخلاقى – انما هى عندنا فلسفه ومنهج، فهى كفلسفه تعنى الانطلاق من الانسان كحقيقه اولى(كما هو)، كائن متفرد نوعيا بانه وحده من الذكاء والماده ، فهى من ناحيه اولى ترفض اقحام المقولات الميتافيزيقيه على علم الاجتماع ،فتستبعد من مجال البحث فيه محاوله الاجابه على السؤال ايهما وجد اولا الماده ام الفكر ،على اساس ان هذا السؤال لم يحسمه البحث العلمى، ومادام كذلك فهو لا يزال فى نطاق الابحاث الميتافيزيقيه)(د.عصمت سيف الدوله، النظريه،ج2،ص83). وخطا هذا التفسير هو ان هذه الفقره والفقرات المماثله لا تدعو الى فصل الميتافيزيقا عن الفلسفه ، بل الى رفض الدمج او الخلط بينهما ،بقرينه دعوته الى استبعاد الميتافيزيقا من مجال البحث فى علم الاجتماع(المنهج) ،وليس دعوته الى استبعاد الميتافيزيقا بصوره مطلقه، وبعباره اخرى هى دعوه الى استبعاد احدى دلالات مصطلح الميتافيزيقا لا كل دلالالته.
القراءه الثانيه “الاسلاميه المستنير”: اما القراءه الثانيه فتنظر الى الفلسفه الانسانيه كاجتهاد انسانى، محدود تكليفيا بالاصول التى مصدرها النصوص اليقينيه الورود القطعيه الدلاله. وهى قراءه تفسر الفقره السابقه على انها دعوه الى تجاوز كل من موقفى الفصل والخلط الى موقف جدلى يقوم على التمييز(لا الفصل) والوحده (لا الخلط) بين الميتافيزيقا و الفلسفه والمنهج، بعباره اخرى تفسر هذه الفقرات بانها دعوه الى رفض دلالات معينه لمصطلح الميتافيزيقا (بحث العقل فى ماوراء الطبيعه(عالم الغيب) دون الاستعانه بالوحى) والاقرار بدلاله اخرى له هى(الايمان بالغيب كمصدر للمعرفه والوحى كوسيله لمعرفته يحدد ولا يلغى عالم الشهاده كمصدر للمعرفه والحواس والعقل كوسيله لمعرفته) . فعلاقه الميتافيزيقا ( بالدلاله السابقه) بكل من الفلسفه والمنهج هى علاقه تحديد لا علاقه الغاء ،يقول الدكتور عصمت (ذلك ان للاسلام كما هو بدون مذاهب قد جاء للناس فى كل زمان ومكان … وما كان له ان يكون كذلك لو لم يكن ما جاء به من شرائع وقواعد واداب مقصورا على اصول ما يحقق مصالح الناس من حيث هم ناس بدون قيد من الزمان والمكان، اما مادون ذلك من شرائع وقواعد واداب تقتضيها مصالح الناس المتغيره المتطوره تبعا لتغير فى المكان والتطور فى الزمان فقد تركها الاسلام لاصحاب المصلحه فيها يضعونها على الوجه الذى يتفق مع مصالحهم المتغيره المتطوره على هدى ماجاء به الاسلام فى القراءن) (د.عصمت سيف الدوله، عن العروبه والاسلام، ص374).هذه القراءه تتجسد فى وجوب اطلاق اى اجتهاد فلسفى او منهجى من المفاهيم القرانيه الكليه الثلاثه(التوحيد والتسخير والاستخلاف) والتى اشار اليها الدكتورعصمت سيف الدوله،فقد اشار الى مفهوم التوحيد كما فى قوله(قرون نحن نتعلم ونعلم وتوحى لنا امهاتنا ونوحى الى ابنائنا ان الله الواحد القادر على كل شىء ذا الاراده المطلقه ليس من البشر وليس كمثله شىْ لينفى لنا التوحيد نفيا قاطعا وجود الهه من البشر قادرين على ان يرفعوا ارادتهم فوق اراده البشر)(د.عصمت سيف الدوله ، الطريق،ج1،ص 162).ويقول عن مفهوم الاستخلاف(ومن هنا كان الاهتمام الفذ الذى يوليه القران للانسان فى ايات امره ناهيه مرشده مذكره محذره تستهدف جميعا تقويم انسان ليكون صالحا لدور القائد لحركه التطور الاجتماعى على الارض التى استخلف فيه)(د.عصمت سيف الدوله ، النظريه،ج1 ص90). ويقول عن مفهوم التسخير(ثلاثه عشره قرنا ونحن نسمع ونقرا فى الطفوله والشباب والى اخر العمر ما يمدنا كبشر بعصاره التفوق ويغذى فى نفوسنا كبرياء الانسان، كل شى مسخر للانسان، ان الارض بجبالها وانهارها وكنوزها ،والسماء بشموسها واقمارها كل هذا من اجلنا نحن بنى الانسان)(د.عصمت سيف الدوله ،الطريق، ج1 ،ص162).
فلسفه الاستخلاف كمحاوله لتطبيق القراءه الثانيه للمستوى الفلسفى للتراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله : ويمكن اعتبار فلسفه الاستخلاف احدى محاولات تطبيق القراءه الثانيه للتراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله طبقا لمستواه الفلسفى ، حيث تقوم على محاوله تحديد العلاقة بين المستخلف(الله تعالى) والمستخلف(الإنسان)والمستخلف فيه(الكون) وذلك باتخاذ المفاهيم ألقرانيه الكلية( التوحيد والاستخلاف والتسخير) مسلمات أولى لها، ثم محاوله استنباط النتائج الفلسفية لهذه المفاهيم متخذه من اجتهادات أهل السنة الكلامية نقطه بداية لا نقطه نهايه.
ثانيا: المستوى المنهجى:
القراءه الاولى “العلمانيه”: تقوم كامتداد للقراءه الاولى للمستوى الفلسفى على فصل الميتافيزيقا عن المنهج ،هذه القراءه رغم انها تتجاوز الماديه (الماركسيه) باسناد الجدل للانسان لا الماده ،الا انها تنتهى مثلها الى احاله جدل الانسان الى جدل المحدود- وليس جدل المطلق والمحدود- والعله وراء ذلك انها تتفق معها فى القول بفصل الميتافيزيقا عن المنهج ، وبالتالى استبعاد المطلق عن الجدل.
القراءه الثانيه “الاسلاميه المستيره” : اما القراءه الثانيه فهى قائمه على القول بوجود شكلين من اشكال الجدل: شكل تكوينى وشكل تكليفى، والعلاقه بينهما علاقه تحديد لا الغاء ، فالاخير لا يلغى الاول بل يحده فيكمله ويغنيه ويكون بمثابه ضمان موضوعى مطلق لاستمرار فاعليته ، وقدعبر الدكتور عصمت سيف الدوله عن الشكل التكوينى بجدل الانسان وعن الشكل التكليفى بجدل الاديان فى قوله (غير ان بعض الاديان تتجاوزه شمولا وسموافى الوقت ذاته لانها تجمع فى حركه جدليه واحده كل ماضى الانسان منذ وجوده الاول فى مواجهه مستقبله كله حتى نهايه الوجود … وبهذا الفارق فى الشمول بين جدل الانسان وجدل الاديان يرتفع الدين على ان يكون محلا للاختبار)(د.عصمت سيف الدوله،الاسس، ص 238-239).
هذه الخطوه تتجسد فى اتخاذ المفاهيم القرانيه الكليه(التوحيد والاستخلاف والتسخير) بما هى مبادىء ميتافيزيقيه (غيبيه) مسلمات اولى للمنهج تحده ولا تلغيه، ولهذا الموقف شرعيته فى اطارالفلسفه الغربيه ،لان المنهج بما هو الكشف عن القوانين (السنن الالهيه بالتعبير القرانى) التى تضبط حركه الوجود يقوم على التجربه والاختبار العلميين، ولكنه فى الوقت ذاته يقوم على افتراضات سابقه على التجربه كالموضوعيه والحتميه…تشكل فلسفه المنهج، لكن هذا لايعنى تحوله الى منهج ميتافيزيقى بالمعنى الغربى، بل المنهج من بعد ذلك هو البحث فى هذه القوانين او السنن الالهيه فى الطبيعه والمجتمع ، ويترتب على هذا ان هذه القوانين او السنن تحكم حركه الانسان بصرف النظر عن كونه مسلم او كافر، ويجوز اخذها من اى مصدر مادامت صحيحه لانها علم تجريبى ، اما المفاهيم القرانيه التى تشكل مسلمات المنهج(فلسفه المنهج) فهى مقصوره على من يؤمن بها (يسلم بصحتها)، وهى من بعد لا تلغى معرفه والالتزام الانسان بهذه السنن بل ضمان موضوعى مطلق لاستمرار هذه المعرفه وهذا الالتزام.
المنهج الاستخلافى كمحاوله لتطبيق القراءه الثانيه للمستوى المنهجى للتراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله: ويكن اعتبار اتخاذ الاستخلاف كمنهج اسلامى للمعرفه كاحدى المحاولات لتطبيق القراءه الثانيه للمستوى المنهجى للتراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله، حيث يقوم الاستخلاف كمنهج للمعرفة على أن صفات الربوبيه (اى ما دل على الفعل المطلق لله تعالى) تظهر في عالم الشهادة على شكلين:
الاول: شكل تكليفي : يتمثل في مفاهيم وقيم وقواعد الوحى الكليه.وهو يحدد الشكل الثانى”التكوينى” كما يحدد الكل الجزء فيكمله ويغنيه ولكن لايلغيه.
الثانى: شكل تكويني: يتمثل في السنن إلالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى ،وهى على نوعين:
السنن الالهيه الكلية: التي تضبط حركه الوجود الشامل للطبيعة المسخرة والإنسان المستخلف ، وقد اشار لها الدكتور عصمت سيف الدوله وهى:
1/الحركة: وقد اشارت اليها العديد من النصوص كقوله تعالى (والفلك تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من ماء فأحيى به الأٌرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
2/التغير:وقد اشارت اليها ايضا العديد من النصوص ،كقوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
3/ التأثير المتبادل: وهى ما يمكن استخلاصها من مفهومي الغنى والفقر، فالله تعالى غني وكل ما سواه فقير، وهذا الفقر نوعان: فقر إلي الله تعالى، وفقر إلي غيره من المخلوقات، والنوع الأخير هو ما يعبر عنه علميا بالتأثير المتبادل.
السنن الالهيه النوعية: وهى التي تضبط حركة نوع معين من أنواع الوجود الشهادى.
سنه “الكدح إلى الله ” : ومثال لها سنه الكدح الى الله المقصورة على الإنسان ، و التى اشاراليها القران فى قوله تعالى، ومضمونها الترقي الروحي المادي من خلال صراع المتناقضات في ذات الإنسان ، و هناك أيضا بعدان لهذا الترقي أو الكدح إلى الله:
بعد تكويني: النقيضان فيه الواقع والغاية ومضمونه أن حركة الإنسان تتم عبر ثلاثة خطوات:
• المشكلة:اى التناقض بين الواقع وغاية في الذهن، وقد عبر القرآن عن هذه الخطوات بمصطلح المسألة:”يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس”.”يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول”
الحل:اى إلغاء التناقض بينهما في الذهن ، وقد عبر الفقهاء عن هذه الخطوة بمصطلح الحكم . كما عبر القرآن عن الحل الرافض للوقوف إلي أحد النقيضين ويؤلف بينهما بالوسطية والقوامة:”وكذلك جعلناكم أمة وسطاً”. “والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكانوا بين ذلك قواماً”..
العمل:اى إلغاء التناقض بينهما في الواقع بتنفيذ الحل في الواقع، وقد أشار القرآن إلي هذه الخطوة.” إلا الذين امنوا وعملوا الصالحات… “
بعد تكليفي: النقيضان فيه المطلق في مستواه الصفاتى لا مستواه الذاتي ( اى صفات الالوهيه (ما دل على كونه تعالى غاية مطلقه)، كمثل عليا مطلقه يسعى الإنسان لتحقيقها في واقعه المحدود ، دون أن تتوافر له امكانيه التحقق النهائي لها، و صفات الربوبيه(ما دل على الفعل المطلق لله تعالى) ، كضوابط تحدد ولكن لا تلغى للفعل الانسانى في سعيه لتحقيق هذه المثل العليا المطلقة في واقعه المحدود زمانا ومكانا، والمحدود(اى الواقع المحدود بالزمان والمكان) ، لذا قرر القرآن والسنة أن هذا الوجود الإنساني قائم على صراع المطلق والمحدود وهو ما عبر عنه القران والسنة بالجهاد في الله أو جهاد النفس: فيروون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك قال :”رجعنا من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر”. وأورد أبن تيمية الحديث ” المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله”. كما قرر علماء أهل السنة أن الوجود الإنساني هو سير لا ينقطع إلي الله، يقول ابن القيم (فإن السالك لا يزال سائراً إلي الله تعالى حتى يموت ولا ينقطع سيره إلا بالموت فليس في هذه الحياة وصول يفرغ معه السير وينتهي)( ابن القيم، مدارج السالكين، ج3، ص45)
وهذا البعد يحدد البعد التكويني ولا يلغيه فيكمله ويغنيه فيكون بمثابة ضمان موضوعي مطلق لاستمرار فاعليته ، فيحدد للإنسان نوع المشاكل التي يواجهها، وطرق العلم بها، ونمط الفكر الذي يصوغ حلولها ،وأسلوب العمل اللازم لحلها(د.صبرى محمد خليل، الابعاد المعرفيه لمفهوم الاستخلاف، مركز التنوير المعرفى، الخرطوم، 2006).
ثالثا: المستوى المذهبى:
القراءه الاولى”العلمانيه” : ترتب على الانتماء المذهبى القومى للدكتور عصمت سيف الدوله ان تراثه الفكرى يقوم على التناقض بين القوميه والاسلام ،وهى استنتاج غير صحيح حتى فى المرحله الاولى من مراحل تطوره الفكرى ، حيث قرر فى هذه المرحله ان(الدين جزء من تكوين الامه العربيه بحكم انها تكونت امه فى ظل الحضاره الاسلاميه…) (د.عصمت سيف الدوله، اسس الاشتراكيه العربيه، 1965 ص7)، اما فى المرحله الثانيه من مراحل تطوره الفكرى فقد خصص كتابه عن العروبه والاسلام اساسا لتقرير ان لا تناقض بين القوميه كعلاقه انتماء الى امه والاسلام كعلاقه انتماء الى دين، كما قرر فيه ان الاسلام هو الهيكل الحضارى للامه العربيه. فضلا عن تقريره وجوب ان يكون نظام دوله الوحده هو النظام الاسلامى…
القراءه الثانيه “الاسلاميه المستنيره”: اما القراءه الثانيه فتتناول المستوى المذهبى للتراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله- شان بقيه مستوياته – من خلال موقف نقدى قائم على مستوى الاصول على قبول ما يتفق مع هذه الاصول، ورفض ما يختلف معها، كما انه قائم على مستوى الفروع على قبول ما كان صوابا فى هذا المستوى ورفض ماكان خطاْ فيه، يقول د.عصمت (…اى ان تكون الممارسه النضاليه وسيله لاغناء وتصحيح ثم تدعيم الفكر الطليعى وطريقا لنشره والتدليل على صحته..).كما انها قراءه تقوم على الاقرار بالقوميه كعلاقه انتماء الى امه تتكامل ولا تتناقض مع الاسلام كعلاقه انتماء الى دين انسانى،والاقرار بالوحده العربيه كخطوه فى اتجاه الوحه الاسلاميه…
مذهب الاستخلاف كمحاوله لتطبيق القراءه الثانيه على المستوى المذهبى للتراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله: ويمكن اعتبار مذهب الاستخلاف – والذى مضمونه الالتزام بشروط الاستخلاف النصيه المطلقه،مع الاجتهاد فى بيان شروطه الاجتهاديه المقيده (المتضمنه لقيم الحريه والعداله الاجتماعيه والوحده والتجديد”الجمع بين الاصاله والمعاصره”) – احدى محاولات تطبيق القراءه الثانيه على المستوى المذهبى للتراث الفكرى للدكتور عصمت سيف الدوله.
المراجع
ابن تيميه، مجموع الفتاوى،طبعه القاهره ، ج 1، بدون تاريخ.
ابن القيم، مدارج السالكين، طبعه القاهره، ج3.
د.عصمت سيف الدوله، اسس الاشتراكيه العربيه،االجنه العليا لتكريم جمال عبد الناصر، طبعه ثالثه،1965.
د.عصمت سيف الدوله، الطريق الى الوحده العربيه،دار الوحده، بيروت ..
د.عصمت سيف الدوله، نظريه الثوره العربيه، دار الوحده، بيروت.
د.عصمت سيف الدوله، عن العروبه والاسلام،مركز دراسات الوحده العربيه، بيروت،طبعه اولى، 1986.
د.صبرى محمد خليل، الابعاد المعرفيه لمفهوم الاستخلاف، مركز التنوير المعرفى، الخرطوم، 2006

.

أضف تعليق