الطريق الى الحركة العربية الواحدة

الثورة العربية وأداتها الواحدة

من الجزائر إلى تونس: هل يمكن للجيوش أن تلعب دورا سياسيا اقتصاديا في الوطن العربي؟ بقلم رياض الصيداوي

rt 1382014 intervention etrang3 ok

.تعتبر مؤسسة الجيش العمود الفقري لأي دولة. وهي تلعب بالضرورة أدوارا خفية أو علنية في جميع الدول الغربية أو الشرقية.

الجيش التونسي وجد نفسه في قلب الأحداث السياسية في تونس من يوم 17 ديسمبر 2010 إلى اليوم. هو الذي أنجح “الثورة” برفضه إطلاق النار على المتظاهرين وإعطائهم إشارات بأنه يقف في صفهم هذه المرة على عكس أحداث جانفي 1978 حينما قمع المحتجين المتضامنين مع الاتحاد العام التونسي للشغل أو “انتفاضة الخبز” في جانفي 1984 حينما استخدم السلاح ضد المتظاهرين… هذه المرة رفض تنفيذ أوامر الدكتاتور المخلوع بن علي فسقط بيسر كبير ودون مقاومة. وللتذكير لا تنجح ثورة دون حياد الجيش أو انقلابه على النظام.

الجيش التونسي قام بدور تأمين انتخابات أكتوبر 2011 لاختيار مجلس تأسيسي يعد دستورا للبلاد. وحينما اشتدت الأزمة السياسية بين الأحزاب المتصارعة كانت الأعين تتجه إليه أيضا كحكم وكخط دفاع أخير ضد الفوضى العارمة وتفكك الدولة.
عمل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة على إضعاف المؤسسة العسكرية بعد محاولة الانقلاب التي قادها بعض ضباط الجيش في 24 ديسمبر 1962 فيما يعرف بجماعة الأزهر الشرايطي… وتواصلت سياسة الإضعاف مع بن علي لعدة أسباب منها توازن السلط بين الأمن والجيش والحرس الوطني ومنها أيضا محدودية الموارد المالية التونسية والاتجاه نحو الاستثمار في التعليم والصحة بدل الدفاع…

ثمة تبسيط بصفة عامة لدى الرأي العام العربي لمفهوم المؤسسة العسكرية في الدولة ودورها في الاقتصاد وفي المجتمع. وثمة اعتقاد خاطئ أنها لا تلعب أدوارا سياسية واقتصادية في البلدان الغربية. الجيش الأمريكي مرتبط بلوبي صناعة السلاح الذي يبحث دائما عن الحروب لإنعاش المداخيل الاقتصادية في هذا القطاع. وفي الدول الغربية يسيطر على الجيوش الأحزاب اليمينية التي تمثل مصالح البرجوازية الكبرى وليس الأحزاب اليسارية التي تمثل الطبقات المتوسطة والعاملة.

انقلاب الجيوش ضد الملكيات

ما يميز انقلابات الجيوش العربية في مصر سنة 1952 وفي العراق سنة 1958 وفي سوريا سنتي 1961 ثم سنة 1963، وفي اليمن سنة 1962 وفي ليبيا سنة 1969، هو قياداتها الشابة المنحدرة عادة من طبقات متوسطة طمحت إلي الاستيلاء علي السلطة وطرد أنظمة تقليدية ملكية أعاقت تطور هذه الطبقة ونزعاتها التحديثية.

تبقي المؤسسة العسكرية في دول العالم الثالث بشكل عام وفي دول الوطن العربي بشكل خاص المؤسسة الوحيدة، المنسجمة والهرمية، القادرة ليس فقط علي المحافظة علي الأنظمة ولكن أيضا علي تغييرها من الداخل. إن تجارب استلام العسكر للسلطة التي حدثت في العالم العربي أكبر دليل علي هذا الرأي. يمكننا التأكيد علي عدم حدوث أي تغيير ثوري بمعني سياسي اجتماعي، في هذه الرقعة من العالم دون المرور عبر المؤسسة العسكرية. يمكننا ذكر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ورفاقه الضباط الأحرار الذين بدؤوا سلسلة التغيير الاجتماعي الثوري عبر استيلاء المؤسسة العسكرية علي الحكم في 23 جويلية 1952. منذ ذلك التاريخ، رصدنا أنه كلما تم توسيع القاعدة الاجتماعية للجيش بإدخال شباب الطبقات الفقيرة والمتوسطة إلا وحدث انقلاب قاده هؤلاء الشباب لاحقا. لقد نجحت الجيوش السورية والعراقية واليمنية والليبية في إسقاط أنظمة الحكم القائمة في سنوات الخمسين والستين. في حين فشلت جيوش أخري في بلدان مثل تونس والأردن والمغرب. أما في الدول الخليجية، فإن العائلات الحاكمة حرصت علي عدم اتساع القاعدة الاجتماعية لجيوشها وحافظت علي أعداد محدودة من الضباط والجنود وركزت علي استيراد التكنولوجيا العسكرية المتقدمة. ويبدو أنها استفادت من تجارب العسكر لدي جاراتها العربية. وقامت السعودية بإضعاف جيشها ورفضت مبدأ التجنيد الإجباري. وتعتمد بقية الجيوش الخليجية على كثير من المرتزقة الأجانب…

يمكننا أن نستعين في تحليل ظاهرة العسكريتاريا بأطروحة عالم السياسة فراد ريغز عندما لا يشاطر رأي غالبية الباحثين الذين يشتغلون في ظاهرة الانقلاب العسكري. فهو لا يعتقد، عندما يعتقد الآخرون، أن العسكر “بطبيعة تكوينهم وواجب الخضوع عندهم، نجدهم متعجرفين ومدفوعين بالطموح ليستولوا علي السلطة ويطردوا السلطة المدنية. يرفض هذه الفكرة ويشرح موقفه قائلا: “حسب رأيي، اعتقد أن رؤية الأشياء بهذا الشكل هي رؤية تبسيطية وتخفي الدينامكية المؤسساتية للانقلاب العسكري. بداية، ليس الجيش كمؤسسة هو الذي يستولي علي السلطة. ذلك أن الانقلابات العسكرية تنظمها مجموعات صغيرة من أعوان الدولة، بضعة ضباط فقط. وبعض أعضاء هذه المجموعات يعبئون في سبيل الانقلاب العسكري وحدات تقع تحت إمرتهم، ولكن في أغلب الأحيان يرفض ذلك الضباط الآخرون. ويتعاون بعض من الموظفين المدنيين مع الضباط بهدف الاستيلاء علي السلطة ويشتركون في إدارة البلاد عندما ينجح الانقلاب .

مثال الجيش الجزائري

تطبق هذه المقولة بشكل واضح علي الجيش الجزائري. إن خصوصية هذا الجيش تكمن في كونه قد خلق الدولة الجزائرية وليس العكس، أي أن الدولة الجزائرية هي التي أنشأت جيشها. تؤكد هذه الفكرة الباحثة الفرنسية ميراي دوتاي عندما تقول بصفة عامة، أراد الجيش في الجزائر أن يكون مالكا للدولة التي صنعها. فهو الشرعية وهو السلطة. كما يعتقد الباحث الجزائري عبد القادر يفصح بأن الجيش الجزائري قد فضل دائما اللعب من وراء الستار. وعمليا، هو الذي فرض وضمن الاختيارات السياسية والاقتصادية الأساسية في البلاد. كذلك، هو الذي فرض كل رؤساء الجزائر المتعاقبين الذين عرفتهم منذ الاستقلال. ويقول فؤاد الخوري في مجال آخر إن الجيش العقائدي معد لا لأداء دوره علي الحدود فحسب وإنما للمساهمة في بناء المجتمع وتطويره.

لقد أبرز هذا الجيش مدي تضامنه الداخلي في مواجهة تهديدات الجماعات الإسلامية المسلحة. لم يعد سيناريو إيران، حينما تفكك الجيش وقبل بالإمام الخميني زعيما جديدا للبلاد بدلا من الشاه دون أن يبدي مقاومة حقيقية تذكر للقادم الجديد.
تميز موقف الجيش الجزائري في مواجهته للجبهة الإسلامية للإنقاذ بالصلابة والشدة رغم صراعاته الداخلية المتعددة التي اخترقته منذ تأسيسه في أول نوفمبر 1954. حافظ علي وحدته الداخلية وتضامنه العسكري وانضباطه الهرمي رغم تسجيل بعض حالات الفرار منه، خاصة بين سنتي 1992 وسنة 1994. لقد عاش مفارقة صعبة، تكاد تكون مستحيلة لو تعلق الأمر بغيره من الجيوش، وهي كيف يدير صراعاته الداخلية وتناقضات ضباطه دون المساس بوحدته المقدسة في مواجهة عدوه المشترك، أي الجبهة الإسلامية للإنقاذ. حدثت ثنائية وحدة / صراع بشكل مدهش واستمرت منذ أزمة 1992 إلي اليوم.

الأصول السياسية العسكرية لقادته

إن محاولة فهم سلوك الجيش في هذا البلد تدفعنا إلي البحث والحفر في خصائصه التي تميز بها طيلة سنوات 1954 حتي سنة 1962. تتمثل أهم خصائصه في:
أولا: الأصول السياسية العسكرية لقادته. فهؤلاء لم يتخرجوا من أكاديميات عسكرية ولم يتحصلوا علي تكوين احترافي في المجال العسكري. لقد كانوا قبل كل شيئ مناضلين سياسيين صعدوا إلي الجبال لتنظيم ثورة وإدارتها مستخدمين أسلوب حرب العصابات. إن أول جيل أسس جيش التحرير الوطني جاء من المنظمة الخاصة أما الجيل الثاني فقد وقع انتدابه لدي أوساط الطلبة والتلاميذ. نذكر من بينهم هواري بومدين ثم عبد العزيز بوتفليقة، أحمد مدغري، أحمد شريف..وتميز بصغر سنه الكبير. وفي كلتا الحالتين كان إيمانهما عميقا بأولية من يقاتل علي من يفاوض، أي أفضلية العسكري علي السياسي. ويمكن تفسير هذا الموقف من خلال عامل مواجهتهم اليومية مع المستعمر وقسوة المعارك التي خاضوها إضافة إلي قسوة الطبيعة نفسها ونقص التموين والأسلحة. كما يفسر هذا الموقف بعامل ثان يكمن في طبيعة الثورة الجزائرية نفسها التي اندلعت علي إثر قطيعة تاريخية مع المنهج السلمي وتبن كامل للمنهج العنيف في معركة التحرير حيث اشتدت قناعة مؤسسي جبهة التحرير الوطني وجيشها بأن الاستقلال لن يتحقق إلا عبر الكفاح المسلح، من هنا حدث تثمين لكل ماهو عسكري وتحقير لكل ما هو سياسي.
ثانيا: اندلاع صراع مفتوح بين السياسيين والعسكريين في مؤتمر الصومام سنة 1956. وفشل محاولة عبان رمضان في إخضاع العسكر لسلطة المدنيين بعد اغتياله من قبل رفاقه.

ثالثا: بروز مفارقة تقليدية في التمييز بين خصائص العسكريين والمدنيين. فالعسكر بطبيعة تكوينهم، رغم خصوصية جيش التحرير الوطني الجزائري كجيش تخترقه الجدالات والاختيارات، ينزعون إلي الانضباط أمام أوامر قيادتهم وعلاقاتهم هرمية وليست أفقية. أما السياسيون فقد كانوا في صراع دائم فيما بينهم. تتناقض تحالفاتهم وتتغير حسب تبدل الوضع. كما أن مصالحهم كانت متباينة. في حين كان العسكر، وخاصة قيادة هيئة الأركان، متحدين تنظيميا، يؤمنون نسبيا بالسلطة الهرمية، منضبطين ومطيعين لقائدهم الكاريزمي هواري بومدين. هذا الاختلاف في الخصائص أدي إلي انتصار العسكر علي السياسيين. يقول هيغ روبارتس في هذا الشأن كان الجيش هو المنتصر الحقيقي في الصراع علي السلطة الذي تم داخل جبهة التحرير الوطني في صيف 1962. لقد خسر سياسيون الحكومة المؤقتة المعركة لصالح قائد هيئة أركان الجيش العقيد هواري بومدين. ولم يتمكن الرئيس بن بلا من ترأس الجزائر المستقلة إلا بفضل دعم العسكر . تميزت هذه النخبة العسكرية القائدة دوما بمعاداتها الشديدة للمفاوضات المشروطة مع الإدارة الاستعمارية الفرنسية، بسعيها المستمر لفرض رؤيتها الخاصة للصراع، وبتأكيد أهمية استخدام السلاح في مواجهة المستعمر وتحرير البلاد. ولقد وصلت إلي السلطة لأنها مثلت المؤسسة الوحيدة في الثورة الجزائرية التي تمتعت بدقة التنظيم وحسن الانضباط وتجربة الإدارة وحتي استخدام تكنولوجيات الاتصال أو الهندسة أو الإدارة المالية. كانت ببساطة الجهاز البيروقراطي الوحيد القائم في الميدان والقادر علي استلام بلد تركته فرنسا في حالة فراغ إداري شامل. أما علي المستوي الطبقي، فقد قدمت هذه النخبة نفسها علي أساس أنها ممثلة طبقة الفلاحين. واتخذت شعارا لها الإصلاح الزراعي، تصنيع البلاد والتوزيع العادل للمنتوجات وللثروات.

مثال الجيش التونسي المضاد

في تونس حدث العكس تماما بالمقارنة مع الجزائر. حيث انتصر الجناح السياسي على الجناح العسكري للمقاومة. وتفسير ذلك هو أن التركيز كان منذ البداية على العمل السياسي الدبلوماسي وليس على الكفاح المسلح. فعدد العمليات العسكرية وكذلك عدد المقاومين المسلحين بقي محدودا جدا. كانت الأولوية للسياسي على العسكري في أسلوب التعامل مع فرنسا. أما في الجزائر فكانت أولوية العسكري مطلقة على النهج السياسي. لذلك ظهر في تونس تعبير “الفلاقة” الذي تستخدمه السلطات الاستعمارية الفرنسية ضد من قاومها. وهو تعبير احتقاري يشبه المناضلين بقطاع الطرق. بينما كان من المفروض نعتهم بالمكافحين أو المجاهدين أو على الأقل بالثوار…
هذان المساران المختلفان في طبيعة الثورة ضد المستعمر الفرنسي أديا إلى جيشين مختلفين من حيث الدور السياسي والاقتصادي في البلاد. لذلك وجد الجيش التونسي نفسه أمام مسؤولية سياسية جسيمة لم يكن متعودا عليها على عكس جيوش عربية أخرى…
الجيش التونسي يحتاج اليوم إلى دعم مالي قوي لمضاعفة عدد أفراده ومعداته لأن التحديات الأمنية الملقاة على عاتقه جسيمة وأهمها مواجهة الإرهاب والفوضى القادمة من ليبيا والتي ستستمر لعدة سنوات…

مثال الجيش المصري

الجيش المصري مثلا يدير اليوم ما بين 25 إلى 40 بالمائة من الاقتصاد. فهو جيش يصنع ويزرع ويبيع ويمتلك فنادقا سياحية. الفكرة كانت مأخوذة منذ بداية الستينات من الجيشين السوفياتي والصيني حيث كان يجب على الجيش أن يمول نفسه بنفسه عبر مزارعه وصناعاته وإنتاجه الخاص. لذلك يعد الجيش العمود الفقري للقطاع العام الاقتصادي وينظر بعين الريبة والشك لعمليات الخصخصة الواسعة النطاق. من المعروف أن ضباط الجيش المصري أوقفوا الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك عند حده حينما أراد أن يتمادى في سياسة بيع القطاع العام تنفيذا لأوامر صندوق النقد الدولي. فالحفاظ على القطاع العام كان يعني بالنسبة لهم الحفاظ على الجيش وبالتالي على الدولة…
إن محاولات “شيطنة” كل ما هو عسكري في الوطن العربي رعتها إعلاميا الأنظمة الإقطاعية الملكية التي تخشى على عروشها من ثورات الضباط والجنود أو التحامها بانتفاضات شعبية… فالمؤسسة العسكرية رغم كل عيوبها هي الضامن الأول لوحدة البلد واستقراره. انهيار المؤسسة العسكرية الليبية وضربها من الخارج ومن الداخل أدخل البلد في دوامة من الفوضى والعنف قد تنتهي بها إلى تقسيم لأقاليم كثيرة… إن أحد أسباب اغتيال الراحل عبد الفتاح يونس، قائد وحدة الصاعقة في بنغازي، هو مشروعه في تشكيل جيش وطني يتصدى لميليشيات مسلحة غير نظامية…
المؤسسة العسكرية مثل غيرها من المؤسسات يجب أن تخضع للنقد ولكن لا أن تستهدف في وجودها … لأنها تبقى في نهاية المطاف العمود الفقري للدولة شرقا أو غربا وبخاصة في الغرب… وهي تلعب أدوارا خفية أو علنية أيضا شرقا أو غربا وبخاصة في الغرب…

مقال جريدة الشعب عدد الخميس 25 سبتمبر 2014

أضف تعليق